نشرت ـ على الصفحة السادسة ـ من صحيفة (الاتحاد الثقافي) مقالاً للاستاذ الدكتور علي حداد حسين التدريسي في مركز احياء التراث العلمي العربي في جامعة بغداد بعنوان ( معارج الحرف ومكابداته)
لم يكن في بيتنا بمدينة الشعلة من كتاب سوى نسخة من القرآن الكريم ، وضعت للتبرك بها ، وقد لفت بقماش أخضر، ووضعت في رف عال. إذ كان والداي ـ الفلاحان القادمان من ريف الكوت ـ أميين . وحين دخلت المدرسة ـ وأنا ابنهما البكرـ فقد كانت كتبي المدرسية أول وافد ورقي إلى ذلك البيت ، وقد احتفت أمي بها أيما احتفاء ، وراحت بيديها تغلفهما بالورق الأسمر الذي لم يكن من ورق غيره (يجلّد) به معظم الأطفال أبناء الفقراء كتبهم.
كنت ـ ومنذ الصف الأول الابتدائي ـ محباً للقراءة متعلقاً بها ، حتى ـ وأنا بالكاد (أفك الخط ) كنت أحاول قراءة كل ما يمرّ علي عينيَّ أو يقع بين يديَّ من المكتوب في أي مكان وعلى أي هيأة كان، وهو الأمر الذي عجلّ من مقدرتي على القراءة الجيدة ، حتى أني صرت أقرأ لكثير من النسوة في حينا الرسائل التي تأتيهن من أبنائهن أو أزواجهن من شمال العراق حيث كانوا جنوداً هناك . وكم سبب ذلك لي من مشاكل مع أقراني من الصغار الذين كانت أمهاتهم تعيّرهم بي، فيشعل ذلك غضبهم عليَّ ليمنعونني من اللعب معهم ، بل وضربي حين تبلغ نقمة بعضهم عليّ أقصى مداها.
لم أكتف بكتبي المدرسية طبعاً ، فصرت ـ وكلما سنحت الفرصة ، وذهبت إلى مدينة الكاظمية ـ أشتري ببعض ما وفرته من مصروفي أعداداً قديمة تباع على الأرصفة من مجلات: (بساط الريح) و(سمير) و(سوبرمان) ثم بعد مدة مجلة (المغامر) و(المختار) . أما الكتب فقد تعرفتها في مكتبة مدرستنا الابتدائية، حين كان معلم اللغة العربية يأخذنا إليها ويعيرنا بعض ما فيها . وكذلك فقد عرفتها مما كان لدى ابن عمي الشهيد (حميد ناصر الجلاوي) الذي كنت أذهب إلى بيتهم في مدينة (الكوت) خلال العطل الصيفية، وأبقى في غرفته الملآى بالكتب الأدبية والسياسية التي ازدحمت في ذاكرتي الغضة من خلالها كثير من أسماء الأدباء العرب والعالم.
كنت أقرأ بشغف في محاولة لفهم ذلك الذي تحمله تلك الكتب كبيرة الحجم ـ كما كانت تبدو لي ـ وإن كان ذلك يعسر علي ، ولاسيما مع كتب الفلسفة ، والفلسفة الماركسية بخاصة .
كانت كتب ابن عمي (حميد) وشخصيته وكتاباته الأدبية المتميزة هي أكثر ما أثر بي في تلك المرحلة ، وسعيت إلى تقليده ، ولكني لم أجد عندي ميلاً لكتابة القصة القصيرة والرواية مثله ، فرحت أجرب إمكاناتي في نظم الشعر ـ الذي كنت تعرّفت شعبيه ـ مما أسمعه من ترانيم الأهل والجيران به. وكذلك الشعر المتعلق بواقعة الطف ومناسبتها الذي كنت أقرأ بعض قصائده لجدتي وعدد من العجائز اللواتي كن يجتمعن معها ، ليستمعن لي وأنا أقرأ مقلداً ما أسمعه في المواكب الحسينية وإن كان ذلك بخجل بيًن.
كان أول كتاب شعري فصيح يقع بين يدي هو (مختارات من شعر المتنبي)، أخذته من أحد زملائي ولم أعده له لأنه لم يطلب مني ذلك . ومن خلال هذا الكتاب عرفت أن هناك شكلاً من الكتابة مختلفاً يسمونه الشعر الفصيح ، انشددت إلى قراءته وسماعه وتقليده ، بعد أن حصلت على مختارات منه لشعراء عدّة كان الجواهري والسياب ، وفي الشعر الشعبي (عريان السيد خلف) أبرزهم.
وفي المتوسطة صرت أنظم الشعر الشعبي والفصيح أيضاً، وإن بنماذج بسيطة ، ولكن الغريب فيها أنها كانت صحيحة الوزن ، إذ لم يكن مدرسو اللغة العربية الذين أعرضه عليهم يجدون لي أخطاء فيها ، كما هي أخطائي في النحو.
أصبحت نصوصي في المرحلة الثانوية أكثر نضجاً، وصرت أنشر بعضها في النشرات المدرسية ، وألقي بعضها في الاحتفالات . ولكني لم أفكر بنشرها في سوى ذلك. غير أن الطريف في الأمر أني تواصلت في تلك المدة مع بعض برامج الإذاعة العراقية ، فكنت أرسل لها مقاطع من قصائدي وبعض الخواطر القصيرة التي كانت تذاع مقرونة باسمي ، وبذلك أكون قد عرفت طريق النشر السماعي لكتاباتي قبل طريق الكتابة في الصحف والمجلات.
انضويت في العام الدراسي 1973 ـ 1974م طالباً بقسم اللغة العربية في كلية الآداب/ جامعة بغداد ، وكنت يومها واثقاً من إمكاناتي الشعرية فشاركت في معظم مهرجانات الكلية وبدأت النشر في المجلات الطلابية والصحف المحلية. وبعد سنتين انتقلت إلى الدراسة المسائية في الجامعة المستنصرية ، لأعمل نهاراً (أمين مخزن) في الشركة العامة للغزل والنسيج الصوفي في الكاظمية ، من دون أن أنقطع عن القراءة والكتابة ، ولكن من غير نشر. وقد شاركت في المهرجان الشعري الجامعي الذي أقيم في الجامعة المستنصرية سنة1978م وفزت بالجائزة الأولى .
وبعد تخرجي أخذت بنشر نصوصي في مجلة (الطليعة الأدبية) ، وكان أول نص منها قد عرض على (قريبي) الناقد (حاتم الصكر) لتقييمه ضمن نصوص العدد السابق، والطريف في الأمر أننا لم نكن قد التقينا أو تعارفنا إلا سماعاً من خلال الأهل. وبعد مدة نشرت لي (الطليعة الأدبية) مجموعة من نصوصي ضمن باب فيها عنوانه (ملف لشاعر شاب) .
كنت أعددت نفسي أن أكون شاعراً ، وشاعراً فقط غير أن الدراسة الأكاديمية لمرحلة الماجستير التي قبلت فيها سنة 1981م أخذت حصة كبيرة مني ، فوجدتني وبمرور الوقت أنشغل بها (معلقاً) أمر الكتابة الشعرية حتى حين.
وفي هذه المرحلة التقيت بالدكتور (جلال الخياط) الذي أشرف على رسالتي للماجستير، ثم أطروحتي للدكتوراه ، ومعه وبين يدي ملاحظاته ودفء شخصيته وتيقّنه المعرفي الجاد وأريحيته الآخّاذة تهيأت لي آفاق من المعايشة الأكاديمية الرصينة التي كان لها تأثيرها في الدقة المنهجية واللغة البحثية المنضبطة ، فضلاً عن السجايا الشخصية النبيلة التي كان عليها أستاذنا الخياط وتركها وديعة ثقافية وإنسانية عند كثير من طلبته وزملائه ومن تعرَّفه.
كنت زاهداً في النشر لغير النصوص الشعرية ، ولكن تشجيع الدكتور الخياط ـ وهو يقرأ بعض ما أكتبه من مقالات نقدية ـ حفزني للسعي إلى نشرها في الصحف والمجلات . وكنت خلال تلك المدة عرفت الطريق إلى الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق ، وحضرت أماسيه ، ونلت هوية
No comment