نشر الاستاذ الدكتور علي حداد حسين التدريسي في مركز احياء التراث العلمي العربي في صحيفة (الصباح) يوم الأربعاء 2021/3/3م. مقالاً في عيد المعلم: أساتذتنا… جلال الحضور وخلوده
لعلنا جيل يمتلك شيئاً من الحظوظ ، إذ أتيح لنا أن نجلس مقاعد الدرس الجامعي بين يدي صفوة من الأساتذة الأجلاء الذين تعلمنا منهم الكثير، سواء في درسهم الجامعي أو كتاباتهم النقدية الرصينة التي واصلوا من خلالها إنضاج تراكم معرفي عن منهج البحث العلمي بقيمه النظرية وآليات تمثله في الممارسة العملية التي أصبحت نهجاً أكاديمياً نهضت بشأنه الجامعات العراقية ، وهي توطد في كلياتها وأقسامها المختلفة مساقات للدراسات العليا. وبما أنتج ـ وخلال مراحل متتابعة ـ تراكماً من الجهد المنهجي الخصيب الذي لا يمكن تناسي دوره في انضاج توجهات أكاديمية عراقية لها سماتها المخبرة عنها، تلك التي لم يعد الباحث الأكاديمي العراقي الحصيف ليتجاوز هيمنة اشتراطاتها أو يتخطاها فيما يكتب، فهي تأخذ به ليجسدها في منجزه الكتابي الذي تتماهى فيه المنهجية ببعدها (الموضوعاتي) مع آليات الكتابة الأكاديمية وتقنياتها، فقد وضع أولئك الأساتذة قضية المنهج سؤالاً أولاً في مناقشات الرسائل والأطاريح التي يقدمها طلبتهم في الدراسات العليا ، ليتكرس ذلك كله في منجز تدريسي وبحثي لأجيال لاحقة من الباحثين.
وكان من سمات الجهد الوضاء لأساتذتنا تواصلهم مع الفضاء الثقافي من حولهم ، حتى ليمكن القول أن الأسماء التي أمست علامات فارقة في الأكاديمية العراقية هم في الغالب الإضافة النوعية المتميزة لنقاد الأدب العراقي البارزين الذين أغنوا مشهده بإنجازاتهم الخصيبة وهي تقارب بعدي (التراث والمعاصرة) في حوار معرفي خلاق. فمن له أن يتكلم عن الدراسات الأدبية والنقدية العراقية ـ بمختلف مجالاتها ـ من دون أن تندّ أمامه شاخصة أسماء : د .علي جواد الطاهر ، ود. علي الزبيدي ، ود. جلال الخيّاط ، ود . محسن جمال الدين ، ود. صلاح خالص ، ود. عناد غزوان ، ود. نوري القيسي ، ود. أحمد مطلوب ، وسواهم من أساتذتنا الكبار الذين أرسوا لأجيال أكاديمية لاحقة نهجاً وعطاء لا يمكن تجاوزهما.
لقد كانت ميزة هؤلاء الأساتذة الكبار الحيوية اللافتة والدور الثقافي المعطاء وسعة المنجز المعرفي وتعدديته . فلقد أغنوا الساحة الادبية بكل ما كان بوسعهم إنجازه على وفق قناعات منهجية حرصوا على إشاعتها وكرسوا جهودهم لأن تصل إلى أجيال لاحقة من طلابهم سواء في الدراسات الأولية أو العليا . لقد أشرفوا على مئات الرسائل والبحوث العلمية وناقشوا أضعافها عدداً. وأفضت بهم قدراتهم المعطاء إلى أن يخرجوا بمنجزاتهم الكتابية إلى فضاءات معرفية عميقة الروح والوعي، تتسع لمختلف أنماط الدرس الأدبي ومجالاته ، فقدموا فيه جهدا ثرا ، رسخ لأسمائهم بصمات تميزها في الثقافة العربية ومنجزها المعاصر، وكرس لحضورهم مكانته من خلال عشرات الكتب التي نشرتها لهم المطابع في البلدان العربية وأضعاف ذلك عددا من الدراسات المعمقة التي حفلت بها الصحف والمجلات العراقية والعربية المختلفة .
وبين ذلك كله يبقى دورهم الاكثر تأثيرا وسطوعا في الترسيخ الذي لا يجاري للدرس الأكاديمي الجامعي وإشاعة مفاهيمه وقيمه من حيث التأطير المنهجي ودقة المسعى وموضوعيته الحريصة على طرائق البحث العلمي واستنطاق وسائله ، والتمسك الممعن باشتراطاته ، بما أرسى وعلى نحو لافت ـ دعائم مدرسة عراقية خاصة في الدراسات الأكاديمية ، يمكن لكل من يطلع عليها أو يقترب منها أن يشير إلى هويتها والمواضعات المعرفية الجادة التي تفصح عنها .
لقد أمتاز مسعاهم ـ كتابة وتدريسا ـ بالدقة والحرص المنهجي حتى أدق تفصيلاته الشكلية ، واتجه بعضهم بوعيه المشخّص نحو المناهج الأدبية الأحدث ـ بحسب ما تحقق له من تمثلاتها ، مشرعا أبواب التأمل والاستجابة لكل ما هو جديد ، ومتفحصا النتاج الإبداعي المعاصر من دون قيود تحد اهتمامه به .
ولم يكن أفق أولئك الأساتذة ليضيّق مجال دراسته فيقصرها على أدب العصر ومجالاته ، لقد تفحصوا كذلك كثيرا من الإبداع العربي الموروث ـ دراسة وتنقيباً وجمعاً وتحقيقاً ـ ليقدموا فيه مؤلفات لها حضورها الدال واللافت في مجالات ما أنجزته.
تحية إجلال لأرواحهم التي تطلّ علينا ـ كل حين ـ من عليين وجودها نبيلة العطاء وخالدة الذكر ، لتدعونا أن نحافظ على وديعة الوعي وصادق الجهد المعرفي وإنسانية الحضور التي كانوا عليها
No comment