نظم قسم توثيق بغداد في مركز احياء التراث العلمي العربي / جامعة بغداد وحسب توجيهات رئاسة جامعة بغداد في القاء المحاضرات الكترونياً
القى أ.م.د احمد عبدالواحد عبدالنبي التدريسي في مركزنا يوم الخميس الموافق 25/3/2021 سمنار بعنوان (تراث الاغنية السياسية في بغداد ( عزيز علي انموذجا )
معرفاً :عزيز علي هو فنان ومونولوج وشاعر من العراق ولد في عام 1911 بجانب الكرخ في بغداد، واسمه الكامل هو عزيز علي عبد العزيز علي حاتم هانئ. أكمل الدراسة الابتدائية عام 1924، ودخل الثانوية المركزية الا انه فُصل لمشاركته في المظاهرات الوطنية الطلابية . وعيّن بعدها موظفا في دائرة الكمارك والمكوس وتنقل بأقسامها في انحاء العراق . وأشتهر بغناء المونولوج, ولم يكن هذا اللون معروفا أو مألوفا في أوساط الغناء العراقي قبله.ومارس مهنة التمثيل في المسرح عندما كان شابا في الخامسة عشر من عمره، وكان أحد ممثلي أول فرقة مسرحية عراقية اسسها الفنان حقي الشبلي في عام 1927 بأسم الفرقة التمثيلية الوطنية، وكان ممن مثل معه الفنانين الرواد محمد القبانجي و أحمد حقي الحلي وسليم بطي ونديم الاطراقجي وغيرهم من رواد الفن والمسرح في العراق. وقد قدمت الفرقة عددا من الاعمال المسرحية كـ مسرحية وحيدة، ومسرحية صلاح الدين الايوبي، ومسرحية جزاء الشهامة.
لقد كان عزيز علي ناقدا في مرحلته الفنية الأولى من عام 1937 لغاية عام 1939، وناقدا سياسيا بعد هذه المرحلة، بل أصبح من أكثر الداعين إلى الثورة ونتاجه في هذه المراحل كلها يدل على نضج فكري ووعي سياسي والتزام مبدئي. وهذا يتضح في موقفه المعلق ومساندته ومشاركته الفعلية في ثورة مايس عام 1941 ، واعتقل وسجن بسببها.
ويذكر ان عند كل يوم اربعاء من الساعة الثامنة والنصف مساءً يتجمع الرجال والأطفال في المقاهي وتتقرب بعض النساء من المقاهي، وتقل حركة الناس في الشارع استعدادا لسماع منولوج الفنان عزيز علي من الراديو الذي يسارع المستمعون إلى حفظ كلامه وترديده فيما بينهم. وفي حالة عدم إذاعة المنولوج في اليوم الموعود يشاع بين الناس أن الفنان عزيزعلي مسجون أو ممنوع من البث، ذلك أن الناس تعتقد أن (عزيز) في كل مرة يذهب للإذاعة ومعه (يطقه/يطغه) فراشه استعدادا للسجن بسبب المنولوج الذي يفضح به الحكومة بالعهد الملكي .بعدما يخدع مدير الإذاعة بكلمات غير سياسية ثم يبدلها ساعة البث المباشر (لأن التسجيل لم متوفر بالإذاعة) بكلمات سياسية جارحة للحكومة.
هذه صورة عزيزعلي بالمتخيل الاجتماعي العراقي والتي لم يحضى بها مطرب آخر وهي ظاهرة اجتماعية تستوقف النظر، لان الفنان عزيزعلي لم يكن يخدع الإذاعة بكلماته، ولم يسجن إلا مرتين طوال عهد النظام الملكي في العراق ، ودراسة هذه الإشاعات موضوع خصب اجتماعيا.
بيد ان كل مستمع لمنولوجات عزيزعلي يتفاجأ بقرب لغتها من العامية والحياة اليومية، ففيها الشتم والسخرية والضحك والتلميح، فالرجل أسس منولوجاته على انتقاءه كلمات الناس العامية وأمثالهم وتلميحاتهم وسخرياتهم الشعبية وتوليفها في شعر ملحون قريب لكلام الناس وبثها على الإذاعة، وبذلك شعر الناس بوصول صوتهم للسلطة عبر إذاعتها. فصار عزيزعلي بطل قال الحق في وجه السلطة، ولأنه لم يتأوه وينشغل بالغزل ولم يتكسب بمنولوجاته في الملاهي، فلم ينظر الناس إليه كمغني بسيط او عادي ، فخصه بلقب (منولوجست) و(فنان الشعب) التي لم يحزها غيره. وبذلك استطاع أن ينفذ إلى القلوب. يقول المنولوجست عزيز علي (( أن الغناء ليس مجرد ميوعة ورخاوة عابثة، ينساب بشكل آهات والتواءات صوتية. فالغناء مرآة تعكس صور الحياة العامة في بلد المغنّي، تتجلّى فيها أماني شعب ذلك البلد. وآراؤه وميوله وأهدافه. ويقتضي الواجب علينا أيضاً أن ندعو إلى غناء يصوّر لنا وللنشء الجديد من أبنائنا حياتنا العامّة، بمشاكلها ومتطلّباتها، ويعبّر عن آمالنا وأمانينا في الحياة، غير الحب والغرام، وغير التأسي والتظلّم لهجر الحبيب)) . وعلى اساس ذلك ونتيجة للقيمة العليا التي وصل اليها الفنان عزيز علي واساهماته الفاعلة بالاغنية والمنولوج السياسي في بغداد ، قامت الحكومة العراقية عام 1958 باستدعائه إلى دار الإذاعة لإلقاء منولوج يعلن قيام عهد جديد وتخويله بالعمل بالإذاعة بعدها بسبب شعبيته الكبيرة لدى الناس، واعتبار منولوجاته من لوازم الثورة، وهذه حالة ملفتة لاتتكرر بسهولة لدى اي دولة عربية. وفي كانون الأول من عام 1967 اناطت به وزارة الثقافة والاعلام تأسيس مدرسة الأطفال الموسيقية، فبادر باستقدام خبراء موسيقين من الاتحاد السوفيتي واستورد الالات الموسيقية المطلوبة لهذه المدرسة على حساب وزارة الثقافة والاعلام واشرف على إدارة هذه المدرسة سنتين.
ومن الجدير بالذكر ان نقول بأن المنولوجست عزيزعلي في المتخيل الاجتماعي وفي تراث الاغنية السياسية في بغداد يظهر كالتالي: انه رجل شجاع لأنه ينتقد النظام السياسي انذاك ويُسجن ويُمنع لكنه لا يخاف من النظام، ويعاود نقده بصراحة وبلغة الناس اليومية، وهذا الموقف له بعد شعبي (مايخاف من أحد) .وهذه البساطة والبسالة في القول، والعمق في المعنى، جعل شعبية عزيزعلي تمتد إلى المثقفين المعاصرين، وهو سبب استمرارية شعبيته إلى الآن. لقد كان هناك اعتقاد لدى الناس أن منولوجات عزيزعلي ممنوعة بسبب الخوف من النظام الذي ينطبق عليه نقد عزيز ولأن بعض المعارضة في الخارج كانت تبث منولوجاته من إذاعاتها، ولان النظام اعتقله بتهمة الماسونية، وهذا ما حجم شعبيته وقتيا. وفي الحقيقة انه لم يكن ممنوع بالتسجيلات لكنه ممنوع من البث في القناة الرسمية للحكومة. غير انه عاد بقوة مع دخول الانترنيت عبر محرك يوتيوب بمنولوجاته المتوفرة وبذلك أصبح متاحا للجميع بعدما كان محصورا في التسجيلات الصوتية العريقة فقط. واذاعت القنوات الفضائية منولوجاته مجددا نتيجة تشابه اوضاع اليوم بالأمس فكان عزيزعلي للناس كأنه معاصر لهم، وكل الغناء الساخر الحديث لم يرتقي الى موهبته، والى الآن لم يظهر منولوجست بموهبة عزيزعلي يسد الفراغ الذي تركه، وبقي المنولوج الذي يسمى شعبيا (ﮔوله=قول) للتهريج والتطبيل والسخرية دون الارتقاء به لأي مضمون اجتماعي او سياسي او تربوي .
اما فلسفة الفن عند عزيز علي وتراثه السياسي الغنائي فأنه يصح فيه القول : لم يكن مجرد منشد أو مطرب يؤدي الألحان التي ينظمها ويغنيها ويلحنها بنفسه، كان بمثابة عالم اجتماع ينقد المجتمع والسياسة والغناء برؤية اجتماعية تاريخية ربما تأثرا بالمادية التاريخية رغم انه كان مستقلا عن الفكر الماركسي وناقدا للشيوعية، فلم ينظر الفنان عزيز علي إلى الغناء بوصفه (أسلوبا رقيقا من أساليب تعبير الإنسان، عن مشاعره وأحاسيسه) ،مارسه الإنسان منذ أقدم العصور فقط، بل (مرآة تعكس صور حياة الأمم والشعوب، في ضوء النظم الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تعيش في ظلها، وتعكس آمالها وأمانيها وما تصبو إليه في الحياة ،ووسيلة جبارة من وسائل تغليب الآراء والأفكار المرغوب بها، من جهة، وسلاح ماض من أسلحة تقويض الأفكار والآراء غير المرغوب بها من جهة أخرى) .
ومن الاهمية بمكان ان نذكر ان عزيز علي بمنولوجاته الاجتماعية والسياسية أرخ لتاريخ العراق الحديث، من منولوج (عال العال) (القبول) (شعار الراس) (الكسلة) (أمان أمان) (البياعين) (صل عالنبي) (يا حسن).
ثم ان منولوج (كل حال يزول) جسد فلسفة عزيز علي الاجتماعية والتاريخية وفق مبدأ الحتمية، فالتغيير قانون الحياة رغم إرادة البشر والاختلاف بين البشر أمر طبيعي بحكم اختلاف الثقافات.وهذا ما جاء في منولوجه :
(( كل حال أيــــــــــــــزول ما تظل الدنيا بفد حال
تتحول من حال لحـــــال هذا دوام الحال محال
وعلى هالمنوال تمر الأجيال)) .
ويجب على الإنسان أن يتعامل بالسببية العلمية ويترك السببية الأسطورية والخرافات، ولا يبرر أخطائه بالشيطان، وهذا ما جسده منولوج (الشيطان) و (عال عال) الذي انتقد طقوس الخسوف الشعبية. ومن المنولوجات السياسية الساخرة والمشهورة له ايضا :
منولوج (منه منه).
منولوج (برنادوت حيا).
منولوج (الفن) .
منولوج (البستان) .
منولوج (الراديو) .
منولوج (الركعة اصغيرة) .
منولوج (الدكتور) .
منولوج (الله يجازي النسوان) .
منولوج (اليحجي صدك) .
وخاتما نقول : ان عزيز علي كان ناقداً اجتماعياً اصبحت منلوجاته وثائق تروي وتحكي تراث الاغنية السياسية في بغداد، وكانت له موهبة شعرية وغنائية في وقت واحد بالاضافة الى كونه معلقا سياسيا وداعية للقضايا الوطنية والقومية ، وتاثيره في الرأي العام العراقي كان كبيراً لأنه كان يخاطب الشعب بلغته العامية ويتغلغل في نفوسهم ويصل الى قلوبهم. توفي عزيزعلي اللحن العراقي الساخر والمنلوجست الكبير وهوعن عمر يناهز اربعة وثمانين سنة في بغداد في 25/10/1995 رحمه الله واسكنه فسيح جناته .
No comment