نشرت صحفية الصباح يوم الخميس الموافق 25/3/2021 مقالاً للاستاذ الدكتور علي حداد حسين التدريسي في مركز احياء التراث العلمي العربي / جامعة بغداد وعلى صفحة فلكلور الاسبوعية بعنوان ( نازك الملائكة وشعر الاطفال ) حيث تتناولت هذه القراءة مجتزءاً من مقالة للشاعرة (نازك الملائكة) أوردت فيها ترنيمة متداولة ضمن ما للأطفال من حصة في التراث الشعري الشعبي. وقبل أن نورد نص تلك الترنيمة وما دونته نازك عنها ، نشير إلى مناسبة ذلك. فقد نشرت مجلة (الرابطة الأدبية ) النجفية ، في عدد أيلول من العام 1975 م دراسة للناقد الراحل (عبد الجبار داود البصري) عنوانها : (الطفل في الشعر العراقي الحديث) وكان من بين النصوص الشعرية التي استوقفته قصيدة الشاعرة (أغنية لطفلي) التي أبدى عنها جملة من الملاحظات ، وهو ما دعا الشاعرة للرد عليه بهذه المقالة التي جعلت عنوانها (تجربة في نقد الشعر) ، نشرت في عدد لاحق من المجلة ذاتها ، ثم تضمنها كتابها (سايكولوجية الشعر ومقالات أخرى) الصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة ، سنة 1993م. حيث شغلت المقالة الصفحات 158 وما بعدها من الكتاب.
صندوقي ماله مفتاح والمفـتاح عـند الحـداد
والحداد يريد فلوس والفلوس عند العروس
والعروس بالحمام والحـمام يريد قـنديل
والقنديل واقع بالبير والبير ايريد إحـــبال
والحبال عند االجاموس والجـاموس ..بالبرية
والبرية تريد مـطر والمطـر …عــــند الله
لا إله إلا الله
لا إله إلا الله
* المقالة :
” كنت في طفولتي أحب هذه الأنشودة دون أن أعرف سبب ذلك ، ولكني كنت ألاحظ بوضوح أن كل عنصر فيها يحتاج إلى غيره … وهذه الظاهرة كانت تسرني بما فيها من ترتيب يسعد الذهن الصغير ، وبما من نغم يبهر شاعرة طفلة ناشئة تتلهف إلى الغناء والموسيقى أشد التلهف . غير أنني ـ كما هو متوقع ـ لم استطع النفاذ إلى المعنى الذكي الذي رقرقته في النشيد أجيال الجماعات العراقية المجهولة التي تناقلته حتى انحدر إلينا.
وأظن أن أحد أسباب حب الأطفال العراقيين لهذه الأنشودة أن الذهن الصغير قادر على ملاحظة السلسلة فيه بسبب وضوحها وقوة نغمها ، وبسبب وجود التكرار بين آخر كل شطر وأول الشطر الثاني.
إذا كانت الأنشودة لم تبح لي في طفولتي بمعناها الرمزي فإنني الآن ـ بعد النضج ـ قد أصبحت ألاحظ باستمتاع وتأثر بالغ ما تكشفه هذه الأنشودة الشعبية من معان، فهي تشخص ظاهرتين في حياة الجيل العراقي الذي وضعه (وقد يكون ذلك في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر ، فإن الأنشودة تراث شعبي لا علم لنا بتاريخه) ، وسأدرج هاتين الطاهرتين فيما يأتي.
ـ إن هذه الأنشودة تعطينا صورة حزينة لحياة الشعب العراقي الذي كان يعاني عوزاً شديداً وفقراً مدقعاً ، بحيث يبدو من المستحيل تلبية رغبة لأي أحد ، فما يحتاج إليه الفرد مربوط دائماً بشيء لا يمكن الحصول عليه ، وكل شيء مفقود ، لأن وجوده يتوقف على وجود شيء آخر لا سبيل إليه ، حتى (العروس) التي تعطى مالاً عند الزواج ـ فهي المحظوظة في مجتمع مفلس ـ حتى هذه العروس لا يمكن الحصول على قرش منها لأنها في الحمام يوم زواجها متعطشة للاستحمام الذي لا يتحقق في ظلام دامس ، لأن قنديل الحمام قد سقط في البئر. إن هناك في هذا النشيد الشعبي قوة شريرة تناوئ العراقي البائس وتطارده ، وسرعان ما يبدو للمتأمل أن من المستحيل تحقيق أي شيء
ـ الظاهرة الثانية التي تعكسها هذه الأنشودة هي ظاهرة الإيمان الديني العميق الذي يتصف به العراقي ، لأن سلسلة الاحتياجات تنتهي عند الله الذي هو منبع العطاء الكامل وسند المحتاجين ومنجد المستضعفين . وعندما يغني الطفل نشيده هذا فهو ما زال حتى اليوم ينشد كل شطر فيه مرة واحدة ، ما عدا (لا إله إلا الله) فهو يعيدها ثلاث مرات .
ولنلاحظ أن النشيد المذكور يوحي إلى الذهن الناقد أن وجود الله يكسب الجماعات العراقية المعذبة راحتين اثنين هما:
ـ أن الله ينهي سلسلة الاحتياجات المتعاقبة. حقاً إن القنديل قد وقع في البئر ، وإذا أردنا التقاطه من الأعماق احتجنا إلى حبال ، وحقاً أن لا حبال لدينا ، لأننا ربطنا بها الجواميس التي ذهبت إلى البرية ، وستتأخر هناك بحثاً عن عشب غير موجود ، لأن المطر محتبس ، كل هذا واقع ، ولكن… فجأة يتذكر المحزون أن المطر عند الله ، والله هو منبع الرحمة الأكبر. وهذه الفكرة تبعث دفء الطمأنينة في قلبه لأنها تعده بسد الحاجة .
وإذن فالسلسلة الشريرة التي لاحت للعراقي المحروم غير قابلة للانتهاء قد استقرت على شاطئ الله العلي القدير محطم السلاسل وواعد المؤمن بالصحو . وفي هذه الفكرة الراحة الكبرى من البلاء المميت . وسرعان ما ينزل المطر غزيراً. وإذن سينبت العشب ، ويشبع الجاموس ، ويرجع ، فنمتلك الحبال ونستخرج من البئر القنديل، ليضيء حمام العروس. وهكذا تتجه السلسلة نحو الحلول بعد أن كانت سائرة إلى التأزم.
ـ هناك راحة ثانية يسبغها وجود الله ، هي هذه المرة راحة فكرية يشعر بها العلماء والمثقفون أكثر مما تحسها الجماهير المحرومة من التعليم، فإن السلسلة التي وردت في الأنشودة تعرض لنا وضعاً فكرياً كانت كل الأشياء فيه ناقصة لا يكتمل وجودها إلا بأشياء أخرى هي نفسها ناقصة تحتاج إلى سواها. ولو استمرت هذه النواقص ، لو تمادى هذا الارتكاز على الهواء ، ومن ثم السقوط الموجع ، لكان في ذلك تعب فكري شديد للعقل الإنساني المفطور على التماس نهاية لكل سلسلة. وكلنا نعلم أن فكرة اللانهاية تبقى مسألة يستحيل على العقل الإنساني المحدود أن يرتاح إليها ، لأن العقل البشري لا يستطيع أن يتصور شيئاً ليست له نهاية ، سواء أكان ذلك في الزمان أو المكان ، ولذلك كان وجود الله أعظم نعمة على الإنسان المتأمل في أقطار السموات وآماد الأزمنة . ولقد كان يمكن أن تكون السلسلة المتعبة في الأنشودة بلا انتهاء ـ وبذلك يفقد العقل العراقي ارتكازه
No comment