نشرت صحيفة الصباح يوم الأحد الموافق 2021/6/20م. مقالاً للدكتور علي حداد حسين التدريسي في مركز احياء التراث العلمي العربي / جامعة بغداد بعنوان (المهيمنات الدالة في منجز (نازك الملائكة) الشعري والنقدي )
أرست (نازك الملائكة) مجمل ما أنجزته ـ شعراً ونقدا ـ على رغبة عارمة في مواجهة (الذكورة) الثقافية المهيمنة بمتحققها الإبداعي والنقدي . وقد سلكت في ذلك طريقين بدت سمة التضاد بيّنة فيهما ، مع أنهما ينطلقان من ذاتها الواحدة ، وينتهجان نوازعها الذهنية والشعورية.
لقد وجدت نفسها في خضم نسق إبداعي ذكوري مهيمن فواجهته بإبداعية أنثوية ، كرست لها وجهتها ابتداء من عنوانات دواوينها التي تمركزت دلالاتها عند توصيف انثوي لم تغادره : (عاشقة الليل - 1947) ، (شظايا ورماد – 1949)، (قرارة الموجة – 1957)، (شجرة القمر – 1968)، (مأساة الحياة وأغنية للإنسان – 1970)، (للصلاة والثورة – 1978) . وكان الديوان الوحيد الذي حمل عنواناً مذكراً هو: (يغير ألوانه البحر – 1977) ، غير أن الشاعرة ـ مؤكدة نسق الهيمنة الأنثوية الذي احتكمت إليه ـ أقصت الفاعل المذكر (البحر) إلى أخر الجملة جاعلة إياه بعد المفعول به!. ولم تكن عنونة مجموعتها القصصية الوحيدة بعيدة عن هيمنة النسق الأنثوي ، إذ هي: (الشمس التي وراء القمة1997م).
أما مضامين شعرها فلا يختلف النقاد على انضوائها في الاشتجار الذاتي الأنثوي ، إذ أجمعت دراساتهم التي تناولت شعرها ـ بسماته الفكرية والجمالية ـ على انشداده إلى خصوصات لا يكاد يغادرها حتى يعود ليجد طمأنينته الأدائية فيها . قوامها ـ طبقاً لقول الدكتور جلال الخياط ـ ” اليأس والألم ، واستعادة الماضي وإثارة ذكرياته والبحث عن حرية لا تجد لها تفتحاً إلا في الشعر”.
ولعله ـ ونتيجة لذلك ـ بدت تجربتها الشعرية في كثير من المواجهات القرائية منقطعة إلى تفردها وحدها ، فهي لم تستطع أن تصنع لها مريدين ، حتى لدى بنات جنسها . إننا نستطيع ـ وبيسرـ أن نؤشر تجارب شعرية تأثرت بالسياب ، ومثله بالبياتي وسواهما ، ولكن العين لا تكاد تقع على أي شاعرـ أو شاعرة ـ تحدث عن تأثره بتجربة نازك الشعرية.
وفي مسار آخر ، فلعل نازك الملائكة كانت الوحيدة من بين رواد التجربة الشعرية الجديدة التي كتبت القصة القصيرة والرواية ، ونقدهما كذلك . وربما سيكون من المعتاد قوله في مثل هكذا نشاط ابداعي محايث أنها ، وحين وجدت الشعرغير كاف لاستيعاب قدراتها المبدعة كلها سعت الى استنبات شكل سردي لكتاباتها التي لم تغادر فيها الإعلان عن قيم خطابها الأنثوي نفسها ، فهي تأخذ ـ في الغالب عليها ـ شكلاً أقرب إلى السيرة الذاتية ، التي تجسدت فيها هيمنة مطلقة للأنوثة ، ليجئ أبطال قصصها في الغالب من النساء اللواتي تلحّ على ذكر أسمائهن ، متداولة مضامين ذات تكريس عاطفي ، حتى وهي تتناول الموضوعات العامة.
(2)
صنعت نازك ـ إلى جانب منجزها الإبداعي ـ متناً نقدياً بارزاً تفردت به عن سواها من الرواد ، لتدرج اسمها ناقدة مهمة في تلك المرحلة ، حين تهيأ لها الوقوف عند المنجز الشعري الحديث ، وفي بعدين من التناول : طرح تنظيري عن الشعر وقضاياه وجماليات تشكله ، وآخر تطبيقي يتأسس على السابق ويؤكد مقولاتها فيه .
لقد تبدى وعي نازك النقدي الخصيب منذ كتابها (قضايا الشعر المعاصر) الذي تمثلت فيه نفساً طويلاً من المعاينة والفحص للسائد الشعري الجديد الذي بدت أنها لا تريد له أن يتجه إلى أبعد مما صنعته تجربتها الشعرية.
ومنذ ذلك الجهد القرائي المهم وما تلاه من مؤلفاتها يمكننا أن نوشر ـ مرّة أخرى ـ تمركز الذات لديها عند نزوع أنثوي يبحث عن التفرد ، ولكن ـ هذه المرة ـ من خلال وسائل الذكورة النقدية وطرائقها في المعاينة والتقصي والتوجيه ، من دون أن تغادر الفاعلية الأنثوية المعتادة لديها في حيز العنونة ، فوضعت لدراساتها النقدية ـ مثلما صنعت مع دواوينها الشعرية وقصصها ـ عنوانات مؤنثة : قضايا الشعر المعاصر 1962م ، الصومعة والشرفة الحمراء 1965م، التجزيئية في المجتمع العربي 1972م ، سايكولوجية الشعر ومقالات أخرى 1993م. وكأنها تستعيد في تلك العنونة ما يعلن عن ذاتها الأنثوية ، كي تكون مدخلاً لتناول الظواهر الأدبية الذكورية مدركة أن النقد سلطة متعالية يمكن محاكمة الآخر من خلالها.
وكان ما استوقف نازك في معظم ما درسته (شعراً ونثراً) أدباً ذكورياً ، استشهدت به في كتبها تأييداً لكثير من مقولاتها واستقرأت الوقائع الأدبية من خلاله طويلاً ، في اجتزاءات نصية لأدياء ذكور ، مقابل غياب يكاد يكون تاماً لتناول المنجز النسوي الأدبي والنقدي معاً.
ولعل ذلك كان منطقياً ، إذ لم يكن من المنتظر منها أن تبحث خارج إطار المنظومة النقدية الذكورية السائدة عن سياق مغاير، فما بين يدي مثاقفتها لغة نقدية واحدة ـ لا غيرها ـ تقدم من خلالها رؤاها لا بوصفها امرأة ـ وهو الأمر الذي لم تشر إليه في أي من كتاباتها ـ بل بوصفها كينونة نقدية متباعدة عن الجنوسة و(لامّة) للتصور النقدي.
No comment