التسامح الديني في الأندلس ، عدالة القاضي ( سليمان بن اسود الغافقي ) مع أهل الذمة
على الرغم من ان موضوع عدالة القضاء والقضاة في الإسلام، ولاسيما في عصور الازدهار الإسلامي، غدا من الأمور المفروغ منها ومعزز لدى الجميع ولا يشك به أحد، لاسيما وان القضاء مرتبط بالعقيدة والشريعة، إلا أن ذلك لا يمنع من أن نقدم دليلا آخر يعزز عدالة القضاء الإسلامي في الأندلس، ذلك القضاء الذي لم يتأثر بالعاطفة الدينية أو بالقوة السياسية بشكل عام .
فمن خلال سيرة القاضي المسلم يظهر جانب من الجوانب المشرقة للحضارة العربية الإسلامية، ولاسيما في الجانب القضائي، ذلك ان بلاد الأندلس تعايشت فيها ثلاثة ديانات هي الإسلام والمسيحية واليهودية، والأولى كانت صاحبة السلطة السياسية، ومع ذلك احترمت وحافظت على حقوق أبناء الديانات الأخرى . فقد سمحت لها بأن يكون لكل منها سلطة قضائية خاصة بها، وذلك التعايش الذي استمر حتى القرن الثاني عشر الميلادي ينظر إليه كمثال على انجاز تاريخي تصعب علينا إدامته في الوقت الحاضر، بل حتى بات من الصعب بمكان تمييز النصارى عن المسلمين في المظهر في قرطبة في حدود منتصف القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي.
إن القاضي سليمان بن أسود الغافقي يعد أنموذجا للقاضي العربي المسلم الذي كان يحرص على عدالة القضاء، وإرجاع الحق إلى أهله دون أن يخشى في ذلك الطبقة الحاكمة، ودون أن يتأثر بعاطفته الدينية حين يتعلق الأمر بالطوائف الدينية غير المسلمة، فهو مثال على نزاهة وعدالة القضاء الإسلامي في الأندلس، وحكمته في معالجة القضايا التي يكون احد أطراف النزاع فيها ذمي (مسيحي أو يهودي) .
وذكرت المصادر التاريخية أن ذلك القاضي عندما كان قاضيا لمدينة ماردة وحاكم المدينة كان ولي العهد الأمير محمد بن عبد الرحمن بن الحكم، حدث خلاف بينه وبين تاجر يهودي من مدينة جيليقية، فلجأ اليهودي إلى القاضي سليمان، والأخير وقف إلى جانب التاجر اليهودي حتى أعاد حقه من الأمير وولي العهد .
وكذلك كان موقفه من قضية قومس بن انتنيان الذي تولى الكتابة للأمير محمد بن عبد الرحمن وكانت العلاقة بين قومس وبين الوزير هاشم بن عبد العزيز الذي يتمتع بسلطة كبيرة عند الحاكم، ومع ذلك وقف القاضي سليمان بن اسود الغافقي موقف الحق من قضية ميراث قومس ضد الوزير . –
كذلك كان له موقف مشرفة أخرى أثناء مدة توليه القضاء حرص فيه على أن يكون إلى جانب الحق بغض النظر عن الأمور الأخرى وفي مقدمتها الاختلاف الديني .
ومع إن الطائفتين المسيحية واليهودية كانت لهما مؤسساتهما القضائية الخاصة التي لها الحرية الكاملة في اختيار قضاتها وفض النزاعات بموجب قوانينها دون أي تدخل من قبل الحكام المسلمين، ودون أي تصادم مع القضاء الإسلامي . ورأس تلك المؤسسات موظف رفيع المستوى يسمى ” كونت ” أو قومس، في حين اضطلع أسقف بالإدارة الدينية التي كان لها رقيب يتولى القضاء فيها اسماه المسلمون قاضي العجم .
لقد عكس قاضي القضاة سليمان بن أسود الغافقي صورة من صور التسامح الديني في الأندلس، ليكون بمثابة درس وموعظة على أهمية التسامح في المجتمعات من أجل التعايش السلمي بحيث يسود الاحترام والمحافظة على حقوق الآخرين .
إن قضاء الغافقي العادل في أهل الذمة ( اليهودية والمسيحية ) في المشاكل القضائية التي حكم فيها القاضي سليمان، وكون احد طرفي النزاع فيها ذمي يهودي أو مسيحي، وكيف إن ذلك القاضي تميز بالحكمة والقوة ووقف بوجه الحكام والمتنفذين من اجل إعادة الحق إليهم يمثل صورة رائعة عن حضارة إنسانية تمثلت بالحضارة العربية الإسلامية .
بقلم . أ .د . وجدان فريق عناد